فصل: سورة الإسراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (125- 128):

{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}.
التفسير:
بهذه الآيات تختّم سورة النّحل.. وهى السورة التي تدعو إلى الإيمان باللّه، بما تكشف من آيات قدرته، المبثوثة في هذا الوجود، والتي تحدّث كل آية منها عن قدرة الصانع، وعلمه وحكمته، كما تحدّث عن النعم التي أفاضها الخالق جلّ وعلا على الإنسان، حيث أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، وجعل له السّمع والبصر، والفؤاد، ثم سخّر له ما في السموات وما في الأرض، وهيأ له أسباب الانتفاع بما في الأرض والسماء.. من عوالم وموجودات.
ودعوة الرسول إلى اللّه سبحانه وتعالى، إذ تحمل هذه الدلائل البيّنة على قدرة اللّه، لا تحتاج إلى قوة قاهرة، توجه إليها الأبصار، وتفتح لها العقول والقلوب.. فإن القوة هنا تضرّ ولا تنفع، حيث أن العقل هو المدعوّ إلى التعرف على اللّه، والإيمان به، وليس سبيل العقل إلى العلم والمعرفة، هو القهر والقسر، وإنما سبيله النّظر والاقتناع، في جوّ من الحرّية المطلقة، البعيدة عن الضغوط المادية، أو المعنوية.
فالإيمان الذي يكون تحت أىّ مؤثر خارجى، يختل العقل، أو يقهره، هو إيمان مدخول، لا يطمئن إليه القلب، ولا تتأثر به المشاعر، ولا يجنى منه صاحبه ما يجنى المؤمنون من إيمانهم من ثمرات طيبة مباركة.
ولهذا كان أمر اللّه سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم بأن تكون دعوته قائمة على هذا المنهج الذي يمثّل الكمال كلّه في غرس المعارف، وتربية النفوس:
{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
ومن الدعوة بالحكمة مراعاة مقتضى الحال، ومخاطبة كل قوم بما يعرفون، وأخذهم بالرفق والتلطّف، واختيار الوقت المناسب للموعظة التي يراد وعظهم بها، حتى تتقبلها النفوس، وتنتفع بما فيها من خير.
إن الرسول طبيب يحمل الدواء إلى العقول، والقلوب، والأرواح.
ومن هنا كانت مهمته عسيرة شاقة، يحتاج معها إلى بصيرة نافذة، تتدسس إلى خفايا النفس الإنسانية، وتضع يدها على موطن الداء. ثم تختار من الدواء ما يشفى العلة، ويذهب بالداء.
وقوله تعالى: {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هو بيان لمرحلة من مراحل الدعوة، وهى المرحلة التالية، للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. فالرسول مطالب بأن يعرض دعوته في أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا تقبّل المدعوّون دعوة الرسول في هذا الأسلوب، من غير عناد أو جدال، فذاك، وإن كان من المدعوين عناد وجدال، فلا يلقى النبيّ المعاندين المجادلين، معاندا مجادلا، فذلك من شأنه أن يعمّى على الحق، وأن يسدّ المنافذ الموصلة إليه، وإنما على الرسول أن يلقى جدال المجادلين بالحسنى، وأن يصرفهم عن هذا الجدل العقيم، إلى ما هو أجدى وأنفع لهم.
وقد أرى اللّه سبحانه وتعالى النبيّ المثل الأمثل فيما يلقى به المجادلين، حين أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال إلى المشركين عن الأهلة، فقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [189: البقرة] ففى هذا الجواب الحكيم، دعوة للمشركين أن ينصرفوا عن هذا الجدل العقيم حول الأهلة، وكيف تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود صغيرة- إلى ما في هذه الأهلة، ودورتها، من آثار يتعرفون بها المواقيت لأمور الدين والدنيا جميعا.
ذلك هو الجدل بالتي هي أحسن وأقوم.. وعلى هذا المنهج ينبغى أن يكون جدل النبيّ، في كل موقف يكون بينه وبين المشركين أو الكافرين، جدال.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} هو تهديد لأولئك الذين يجادلون بغير علم، ولغير غاية، إلا المراء والإعنات.. فاللّه أعلم بهؤلاء الضالين عن سبيله، لا يجتمعون مع المهتدين، ولا ينزلون منازلهم، بل يعزلون عنهم، ويلقى بهم في عذاب السعير.
قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
قيل إن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها نزلت بالمدينة، بعد غزوة أحد، ولهذا حسبت الآيات الثلاث من القرآن المدني، على حين أن السورة كلها- فيما عدا هذه الآيات الثلاث- مكية.
والمستند الذي يقوم عليه القول بنزول هذه الآيات بعد غزوة أحد- هو ما يروى من أن المشركين حين ظفروا بالمسلمين في غزوة أحد مثّلوا بالشهداء تمثيلا لم تعرفه العرب، فبقروا بطونهم، وصلموا آذانهم، وجدعوا أنوفهم، إلى غير ذلك مما يقال من أن المشركين ونساءهم فعلوه بالشهداء، تشفيّا لما أصابهم في يوم بدر، حتى ليقال إن هند بنت عتبة، زوج أبى سفيان، بقرت بطن حمزة- رضى اللّه عنه- وأخذت كبده، وأكلت شيئا منها! ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، حين رأى ما فعل المشركون بحمزة، وغيره من الشهداء حزن لذلك حزنا شديدا، وحلف لئن أظفره اللّه بالمشركين أن يمثّل بسبعين منهم.. وكذلك فعل كثير من المسلمين.
فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
فأخذ النبيّ بما هو خير، ولم يعاقب المشركين بمثل ما عوقب به، وكفّر عن يمينه.. واقتدى المسلمون به.
ومما يؤيد القول بأن هذه الآيات مدنية، ما تضمنته من دعوة المسلمين إلى أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، أو يصبروا على ما أصابهم، فذلك خير لهم، وأولى بهم.. وتلك حال لم تكن للمسلمين في مكة، إذ كانوا ولا قدرة لهم على ردّ العدوان بالعدوان، وإنما كان الصبر على المكروه، هو كل عدّتهم في هذا الدور من الصراع الذي كان بينهم وبين المشركين.
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} هو دعوة النبيّ الكريم إلى الأخذ بما هو خير له من الأمرين اللذين خيّره اللّه سبحانه وتعالى بالأخذ بأيّ منهما، في قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
فإذا كانت الدعوة إلى الأخذ بالصبر على سبيل التخيير في جانب المسلمين عامة فإنها في جانب النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أمر وإلزام.
وقد اختص النبيّ الكريم بالدعوة إلى الأخذ بالصبر وحده، دون أن يعاقب بمثل ما عوقب به- لأن ذلك مقام لا يحتمله إلا قلة قليلة من الناس، على رأسهم أنبياء اللّه ورسله.. ولهذا جاء أمر اللّه خاصة إلى النبيّ الكريم:
{وَاصْبِرْ}.
ولم يجيء هكذا: {واصبروا} وإن كان هذا لا يمنع من أن يتأسّى المسلمون بالنبيّ في هذا.. فهو قدوة المسلمين في كل ما هو كمال، وخير، وإحسان.
وفى قوله تعالى: {وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
هو تطمين للنبىّ الكريم، وتثبيت لفؤاده على التزام الصبر، وإيناس له من وحشة هذا العبء الثقيل الملقى عليه، إذ أنه سيتلقى المدد والعون من اللّه، وأن هذا الصبر الذي يدعى إليه، إنما هو صبر عظيم، لا تحتمله النفوس إلا بالاستعانة عليه باللّه.. واللّه سبحانه وتعالى معينه وممدّه بألطافه.
وفى إضافة الصبر إلى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه-: {وما صبرك إلا باللّه} إشارة إلى أنه صبر من طبقة عالية، لا ينالها إلا النبيّ الكريم، المؤيد من اللّه، والمزوّد منه سبحانه بالقوة والعزم على احتمال هذا النموذج الفريد من الصبر.. فهو صبر ذو صفة خاصة.. هو صبر النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقوله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} هو عزء للنبىّ الكريم، فيما كان يجد في نفسه من حزن وأسّى على قومه الذين غلبت عليهم شقوتهم فماتوا على الكفر، حتف أنوفهم، أو في ميدان القتال بأيدى المسلمين.
وقوله تعالى: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}.
هو مواساة للنبىّ، وتخفيف لما يقع في نفسه من ألم، إذ يرميه قومه بالضرّ والأذى، ويبيّتون له الكيد، ويدبرون له السوء.. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} [30: الأنفال].. فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولى عنه دفع هذا الكيد، وإبطال هذا المكر.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
هو حكم عام للّه سبحانه وتعالى في عباده، وهو أنه سبحانه وتعالى، يتولّى المتقين المحسنين منهم، ويحوطهم برعايته، ويمدهم بأمداد عونه ونصره.. وفى هذا الحكم يرى النبيّ الكريم أن هذه الأمداد التي يمدّه بها ربّه، إنما هي مما قضى اللّه به في حلقه، وأن هذا العطاء الكريم هو من نصيب المحسنين المتقين، وأنه بقدر ما يبلغ الإنسان من إحسان وتقوى، يكون قربه أو بعده من معيّة اللّه.. والنبىّ الكريم- لا شك- أوفر عباد اللّه حظّا من التقوى والإحسان، فهو لهذا أكثر عباد اللّه قربا من ربّه.
والمعيّة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} هي معيّة القرب من ألطاف اللّه، والتعرض لنفحات رحمته وإحسانه.. كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [56: الأعراف].
والتقوى: أساسها الإيمان باللّه.. لا تنبت مغارسها، ولا يثمر زرعها، إلا إذا غرس في تربته، وارتوى من مائه.
وملاك أمر التقوى، هو امتثال أوامر اللّه، واجتناب نواهيه، أو كما يقول بعض العارفين: هي ألّا يراك اللّه حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك.
أما الإحسان.. فهو التقوى في كمالها وتمامها.. حيث يستقيم المؤمن على شريعة اللّه، ويلتزم حدوده، فيصطبغ بصبغة التقوى، التي يصبح بها من عباد اللّه المحسنين المقربين.. وقد أجاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن الإحسان، حين سئل عنه، فقال: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وقد كشف اللّه سبحانه عن حقيقة الإحسان في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [93:
المائدة].. ففى هذه الآية ما يكشف عن قيمة الإحسان، ومكانة المحسنين. إذ هو الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم، وينالها المتقون بتقواهم.
وعلى هذا، يكون المتقون، والمحسنون، في منزلتين من منازل الإيمان.
وأن كلّا من المتقين والمحسنين له شرف {المعيّة} مع اللّه.. وإن كان المحسنون أقرب قربا، وأكثر عطاء ورفدا.
جعلنا اللّه سبحانه وتعالى من عباده الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنزلنا منازلهم، وحشرنا في زمرتهم، ونفعنا بهم في الدنيا والآخرة.
إنه سميع مجيب والحمد للّه رب العالمين.

.سورة الإسراء:

نزولها: نزلت قبل الهجرة بنحو عام، فهى مكية.. وقيل إن فيها بضع آيات نزلت بالمدينة، منها قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}.
إلى قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}.
ومنها آية:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}.
وآية: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} ويقول الفيروزآبادي في كتابه بصائر ذوى التمييز: إن السورة مكية باتفاق!! عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية.
عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وثلاث وستون كلمة.
عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا.
ما يقال في تسمية السورة:
الرأى على أنها سميت الإسراء.. لأنها بدأت بالإسراء، ولأن الإسراء أعظم حدث في حياة النبيّ، بل وفى حياة البشرية كلها.. فلم يقع هذا الحدث في الحياة البشرية، إلا تلك المرّة.. فكان بذلك أعظم معلم من معالم تلك السورة، وحقّ له أن يكون وحده دون غيره، عنوانا لها.
هذا، والبيضاوي في تفسيره، يسمّى هذه السورة سورة: {أسرى} جاعلا فعل الإسراء {أسرى}، هو العنوان للسورة، دون تغيير فيه.
ومن أعجب الأعاجيب هنا، أن نجد لهذه السورة اسما، يجعله المفسّرون من بعض أسمائها، على ما جرت به عادتهم من تكثير الآراء وحشدها، للأمر الواحد.. فجعلوا من أسماء هذه السورة، اسم: بنى إسرائيل.
وواضح أن هذا الاسم دخيل منتحل، تسلّل إلى المفسّرين وأصحاب السّير، فيما تسلّل من الإسرائيليات، التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء، فقبلوها منهم بحسن نيّة.
ولو كان لبنى إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم في القرآن الكريم، لكانت سورة البقرة- مثلا- أولى من الإسراء في هذا المقام، إذ كانت البقرة تحوى من أخبار بنى إسرائيل، أكثر مما تحويه سورة الإسراء، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة، وهى بقرة بنى إسرائيل، ولم تأخذ اسمهم! الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلا أن يكون لبنى إسرائيل سورة باسمهم في كتاب اللّه، وإن كان لأبى لهب سورة باسمه! ومن جهة أخرى، فإنا نرى سورا في القرآن، فيها حديث مستفيض عن بنى إسرائيل، كسورة الأعراف، وسورة طه، مثلا، ومع هذا فلم تسمّ أىّ منهما سورة بنى إسرائيل!! فلما ذا كانت سورة الإسراء بالذات، هي التي يدخل عليها هذا الاسم، وينازعها شرف هذه التسمية التي سميت بها تلك السورة؟
إننا نشمّ هنا ريح {اليهود} ونجد بصمات أصابعهم المتلصصة، التي تريد أن يكون حديث الإسراء حديثا خافتا، لا بذكر إلا عند تلاوة الآية، دون أن يجرى له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم، كلما ذكرت آية من آيات هذه السورة، ونسبت إليها الآية.. وذكر السورة في القرآن الكريم يحرى عادة أكثر من ذكر أي آية من آياتها.
هذه واحدة، من فعلات اليهود في حديث الإسراء!
وأكثر من هذا كيدا، ومكرا، ما أدخلوه على حديث الإسراء ذاته من زور الأحاديث، التي أخذها عنهم بعض العلماء، عن غفلة، ونيّة حسنة، باعتبار أن هذه الأحاديث المبالغ فيها تعالى من قدر النبيّ، وترفع من شأنه.. وما دروا أن تلك المفتريات إذ تجتمع مع الحقّ، تبعث حوله الشك والاتهام، الأمر الذي يذهب بجلال الحقيقة وروعتها، وإنما مردّ ذلك الجلال، وتلك الروعة، إلى قربها من الطبيعة البشرية، ومداناتها للواقع المألوف.. وحسبنا شاهدا لهذا، القرآن الكريم، في إعجازه الذي قصرت عن مداناته أيدى الإنس والجن، ومع هذا، فهو من كلام لم يخرج عن مألوف اللسان العربىّ، ولم يجاوز حدود اللغة العربية! وسنرى في حديث الإسراء، ما دخل على هذا الحديث من دسّ اليهود وكيدهم، الأمر الذي ألقى شبها كثيرة عند من يستمعون إلى هذا الحديث وما اختلط به، فلا يدرى المؤمن ماذا يأخذ من هذه الأحاديث وماذا يدع، فلو أنه أخذها جملة لما اطمأن إليها قلبه، ولما سكن إليها عقله، ولو أخذ بعضا وترك بعضا، لفقد الثقة فيما أخذ أو ترك.. جميعا!!
مناسبتها للسورة التي قبلها:
ختمت سورة النحل، التي قبل هذه السورة بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
وهذا الختام يحدّث عما كان يعانيه الرسول الكريم من ضيق، وما يجده في نفسه من مشاعر الحزن والألم، لما يلقى من قومه وأهله من كيد، وما يرى فيهم من عناد وإصرار على الكفر والضلال.. فناسب ذلك أن يذكر معه، ما كان من فضل اللّه على النبي الكريم، بهذه الرحلة المباركة التي رأى فيها النبيّ الكريم ما رأى من آيات ربّه، فوجد في هذا، الروح لنفسه، والانشراح لصدره، والعزاء الجميل من مصابه في أهله.
ولعلّ فيما حدّث به ختام سورة النّحل ما يكشف عن بعض حكمة الإسراء، وأنه- كما سنرى- كان استضافة للنبىّ الكريم في رحاب الملأ الأعلى، ليستشفى مما نزل به من ضيق، وما ألمّ به من ألم، في هذا الصراع الذي كان محتدما بينه وبين قومه، حتى لقد كانت تتنزّل عليه آيات اللّه تدعوه إلى أن يرفق بنفسه، وأن يتخفف من مشاعر الحزن على أهله، ألا يكونوا مؤمنين. وفى هذا يقول سبحانه {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [8: فاطر] ويقول جلّ شأنه:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [99: يونس] ويقول سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [56: القصص].
ويجتمع هذا كله في قوله تعالى في آخر سورة النحل: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}.
فناسب هذا الختام للسورة أن تجيء بعدها سورة الإسراء، وما كشف اللّه لنبيه في هذه الرحلة المباركة من جلال ملكوته، وما أراه من أسرار علمه وحكمته! بسم اللّه الرّحمن الرحيم.